-A +A
عبدالله بن فخري الأنصاري
يكاد يكتمل عقد العائدين من معتقل جوانتانامو إلى أرض الوطن بعد أن أمضوا في المعتقل مددا متفاوتة تصل لأكثر من ست سنوات حرموا فيها من أبسط الحقوق الإنسانية. والمتابع المنصف لشؤون المعتقلين السعوديين في جوانتانامو يجد نفسه أسير الإعجاب بتلك النجاحات المشرفة التي حققتها الجهود الأمنية والدبلوماسية الكثيفة التي بذلتها القيادة الحكيمة في المملكة مع الإدارة الأمريكية عبر جميع القنوات لاستعادة كافة المواطنين المعتقلين وبأسرع وقت. ففي غضون أسابيع من أحداث الحادي عشر من سبتمبر (وبالتحديد في أكتوبر 2002) أصدر سمو وزير الداخلية أوامره بإنشاء مكتب لمتابعة أوضاع المعتقلين السعوديين في الخارج يقوم بالتنسيق مع وزارة الخارجية وسفارات خادم الحرمين الشريفين للتواصل مع ذوي وأقارب المعتقلين السعوديين، وتقديم المعلومات والرعاية الصحية والنفسية والمادية والاجتماعية لهم.
كما انطلقت الجهود الدبلوماسية في غضون أسابيع من وصول أوائل المعتقلين السعوديين إلى معتقل جوانتانامو. تمثل ذلك في زيارة سمو مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية للولايات المتحدة في 2002 للتباحث في شأن المعتقلين السعوديين، ثم إعلان سمو وزير الداخلية في أكتوبر 2002 عن تشكيل فريق عمل أمني يضم مسؤولين من وزارتي الداخلية والخارجية والأمن العام، والذي قام بزيارات عدة للولايات المتحدة عبر هذه السنوات لمتابعة أوضاع المعتقلين. وكان من الواضح أن الخيار الدبلوماسي هو الأمثل في التعامل مع هذه القضية، وذلك في ظل غياب واضح للشرعية القانونية. لذا سعت المملكة إلى المحافظة على الحوار الدبلوماسي، وتقييم المطالب الأمريكية في ما يخص المعتقلين دون المساس بسيادة المملكة وسلطانها على مواطنيها، أو السماح لجهة أجنبية بالتدخل في شؤون المملكة الداخلية، أو التنازل عن أي حق من حقوق مواطنيها المكفولة بموجب الأنظمة الداخلية والقانون الدولي. وتظهر آثار هذه النجاحات ليس في استعادة معظم المعتقلين فحسب بل وفي إيمان المعتقلين أنفسهم، وتقديرهم لموقف دولتهم منهم، وثقتهم بعدالة ونزاهة مؤسساتها الأمنية والقضائية. ففي الوقت الذي رفضت بعض الدول تسلم مواطنيها من معتقلي جوانتانامو، لم تتخل المملكة عن موقفها الرسمي والثابت إزاء مواطنيها المعتقلين، حيث دعت إلى احترام الحقوق الأساسية لكافة المعتقلين، ومارست نوعا من الضغط والإقناع السياسي سعيا منها لاستعادتهم، وطالبت بإغلاق المعتقل الذي يشكل انتهاكا صارخا للمواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وفي الوقت الذي تقدم العديد من المعتقلين من جنسيات مختلفة بالتماسات إلى المحاكم الفيدرالية الأمريكية لمنع تسليمهم إلى دولهم الأم خوفا من تعرضهم للتعذيب، أو سوء المعاملة، أو خوفا من عدم تمتعهم بمحاكمة عادلة، تمسك أبناء المملكة بالعودة إلى أرض الوطن إيمانا منهم بمقاييس العدل والحق والإنصاف التي ترتكز عليها المملكة.

ولا تملك إلا أن تزداد إعجابا وأنت ترى النجاحات التي تحققها أجهزة الدولة ممثلة في وزارة الداخلية في تأهيل العائدين من المعتقل لإزالة الآثار السلبية التي خلفتها فترة اعتقالهم، وتهيئتهم للاندماج من جديد في المجتمع وتحويلهم إلى أعضاء صالحين ومؤثرين في نهضة وطنهم. حيث تقوم الجهات المختصة في وزارة الداخلية، وبمجرد وصول المعتقلين إلى أرض الوطن، بتوفير كافة التسهيلات اللازمة لالتقائهم بأسرهم. وتقوم الجهات المعنية بالتحقيق بالتعامل مع العائدين بما يحفظ كرامتهم ووفقا للأنظمة المرعية والتزامات المملكة الدولية. كما تحرص وزارة الداخلية وبمتابعة شخصية من لدن سمو وزير الداخلية وسمو مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية على تمتع العائدين بالرعاية الصحية والنفسية والفكرية والمادية والاجتماعية قبل وبعد الإفراج عنهم من خلال برنامج مبتكر وأسلوب فريد يتم من خلاله مناصحة العائدين للتأكد من سلامة فكرهم وخلوه من الأفكار المضللة وتوضيح ما التبس عليهم، وتقديم العلاج الصحي والملاحظة النفسية الدقيقة لإزالة آثار التعذيب النفسي الذي تعرضوا له في المعتقل. كما تتمثل هذه الرعاية في تقديم الدعم المادي والمعنوي، ومن خلال تلمس حاجات العائدين الاجتماعية والعمل على حلها، وتقديم الرعاية الفكرية والمتابعة الأمنية لمن تم الإفراج عنهم حرصا من الدولة على تقوية الصلة وبناء الثقة المتبادلة بين العائدين وأجهزة الأمن، وتنمية إحساس العائدين بمسؤوليتهم في الحفاظ على أمن الوطن، وعلى التزامهم بالأنظمة المحلية والدولية للإبقاء على فرص إخوانهم الباقين رهن الاعتقال.
لقد أضاءت الدبلوماسية السعودية الطريق أمام عدد من الدول في كيفية التعامل مع هذه القضية. وأضحت التجربة السعودية في تأهيل العائدين من معتقل جوانتانامو تجربة رائدة ونموذجا يحتذى ومطلبا وطنيا لعدد من الدول الإسلامية والغربية. وبات التزام العائدين بالأنظمة والتعليمات دليلا يعكس أصالة المواطن السعودي ورفضه للمعتقدات الخاطئة، وورقة رابحة للمفاوضات تستخدمها المملكة في سرعة عودة من تبقى من المعتقلين.
afansary@yahoo.com